د. هبة العطار **
في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، برزت القاهرة من جديد كعاصمة للقرار العربي، حين نجحت جهودها المتواصلة في التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب على غزة بعد شهور من التصعيد الدموي الذي أنهك المدنيين وكاد يعصف بكل فرص الاستقرار في المنطقة. لم يكن هذا النجاح وليد الصدفة؛ بل جاء ثمرة مسار طويل من الاتصالات والمشاورات التي قادتها مصر بهدوءٍ ودقة، عبر جولات تفاوضية مكثفة احتضنتها مدينة شرم الشيخ، في ظل أجواء مشحونة بالضغوط الإقليمية والدولية.
تميز الموقف المصري في هذه المفاوضات بالثبات والاتزان؛ إذ لم تسع القاهرة إلى استعراض سياسي بقدر ما ركزت على استعادة منطق الدولة الراعية للسلام والمسؤولة عن أمن الإقليم. فمصر كانت الطرف الوحيد الذي احتفظ بعلاقات مفتوحة مع جميع الأطراف، من الفصائل الفلسطينية إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما منحها قدرة فريدة على هندسة التفاهمات، وترتيب خطوط التواصل غير المباشرة، التي أفضت في النهاية إلى صيغة لوقف إطلاق النار تراعي الاعتبارات الإنسانية أولًا، وتفتح الباب أمام مسار سياسي جديد يعيد الأمل للمدنيين في غزة.
اختيار شرم الشيخ كمقر رئيسي للمفاوضات لم يكن تفصيلًا بروتوكوليًا؛ بل رسالة سياسية في حد ذاتها؛ فالمدينة التي ارتبط اسمها لعقود بمؤتمرات السلام أصبحت مجددًا منصة لإحياء الدبلوماسية الواقعية، حيث التقت فيها وفود من عواصم مختلفة لتنسيق مواقفها حول ضرورة إنهاء العنف والانتقال إلى مرحلة التهدئة وإعادة الإعمار. وقد أظهرت مصر، من خلال إدارتها الهادئة لهذه الجولات، أن السياسة ليست دائمًا مواجهة صاخبة؛ بل هي في أحيان كثيرة فن إدارة الصراع بفكر واع متأصل فيه الحكمة المتوازنة.
كما برز الدور المصري في قدرته على التوفيق بين مصالح متناقضة؛ فالقاهرة وضعت في مقدمة أولوياتها حماية المدنيين وفتح ممرات إنسانية آمنة، لكنها في الوقت ذاته تعاملت مع الجانب الإسرائيلي بواقعية، وأدارت اتصالاتها مع واشنطن بقدر كبير من التوازن، مدركة أن أي حل دائم يتطلب تفاهمًا دوليًا لا ينفصل عن الإرادة العربية. ومن هنا جاءت صيغة الاتفاق التي اعتمدت على وقف شامل للعمليات العسكرية، وضمانات لمتابعة التنفيذ، تمهيدًا لمرحلة من الحوار السياسي الأوسع.
لقد أكدت هذه المفاوضات أن الدور المصري في القضية الفلسطينية ليس مجرد وساطة تقليدية؛ بل هو امتداد طبيعي لمسؤوليتها التاريخية تجاه الأمن العربي؛ فالقاهرة لا تتحرك بمنطق النفوذ؛ بل بمنطق الضرورة الاستراتيجية التي ترى في استقرار غزة جزءًا من أمنها القومي، وفي تهدئة الصراع خطوة نحو استعادة التوازن في شرق أوسط يموج بالاضطرابات.
وقد أسفرت هذه المفاوضات عن جملة من الاتفاقات الأساسية التي شكلت جوهر المرحلة الأولى من التفاهمات. في مقدمتها وقف فوري ومتبادل لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، تلتزم بموجبه الأطراف بوقف الأعمال العسكرية والهجمات الجوية والمدفعية، تمهيدًا لإعادة الأمن وفتح المجال الإنساني داخل القطاع. وتضمن الاتفاق أيضًا انسحابًا جزئيًا للقوات الإسرائيلية من بعض المناطق التي شهدت أعنف المواجهات، كبادرة حسن نية تمهيدية تمهد لمرحلة أكثر استقرارًا.
كما نص الاتفاق على تبادل الأسرى والمعتقلين بين الجانبين، وفق آلية متدرجة تشمل الإفراج عن المحتجزين المدنيين من النساء والأطفال، يليها تبادل أكبر للأسرى وفق قوائم أعدتها لجان فنية بإشراف مصري. إلى جانب ذلك، تم الاتفاق على فتح المعابر الحدودية بين مصر وغزة لتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية والوقود، وضمان تدفقها بشكل منتظم تحت إشراف مصري دولي مشترك.
وشمل الاتفاق أيضًا بندًا إنسانيًا لعودة النازحين إلى مناطقهم تدريجيًا، وفق ضمانات أمنية ورقابة دولية تمنع أي خرق للهدنة أو اعتداء على المدنيين. وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مراقبة مشتركة تضم ممثلين عن مصر والأمم المتحدة والولايات المتحدة وقطر لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق، وضمان استمرارية وقف إطلاق النار وتثبيت التهدئة، مع عقد اجتماع دوري لتقييم التنفيذ واحتواء أي خروقات محتملة.
إن اتفاق شرم الشيخ لا يُمثّل فقط نهايةً لجولة دموية من القتال؛ بل بدايةً لمرحلة جديدة من العمل السياسي الذي يعيد الاعتبار لمنطق الدبلوماسية الهادئة، ويؤكد أن مصر ما زالت اللاعب العربي الأقدر على إدارة الملفات المعقدة بحكمة واتزان. لقد نجحت مصر في أن تُعيد للشرق الأوسط صوته العاقل وسط صخب السلاح، وأن تثبت أن السياسة، حين تُمارس بعقلٍ وضمير، قادرة على أن تفتح للإنسان نافذةً للحياة وسط الدمار.
** أستاذة الإعلام بجامعة سوهاج في مصر، وجامعتي الملك عبد العزيز وأم القرى بالسعودية سابقًا